كنيسة اللاتين في غزة… تحت القصف شهادة على تخاذل العالم

واصف ماجد
في السابع عشر من يوليو 2025، تعرّض مجمع كنيسة العائلة المقدسة للاتين في مدينة غزة لقصف إسرائيلي أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين، بينهم رجل مسن وامرأتان، إلى جانب إصابة آخرين، من بينهم كاهن الرعية الأب غابرييل رومانيلي.
وأسفر الهجوم عن مقتل ثلاثة من المدنيين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى الكنيسة بحثًا عن الأمان، وهم: سعد عيسى كوستاندي سلامة، البالغ من العمر 60 عامًا، وكان يعمل ضمن طاقم الكنيسة؛ وفومية عيسى لطيف عيّاد، سيدة مسنّة تبلغ من العمر 84 عامًا، تُعد من أبناء الرعية المعروفين؛ إضافة إلى نجوى أبو داود، البالغة من العمر 70 عامًا، والتي كانت تخضع لرعاية صحية ونفسية داخل المجمع وقت استهدافه
وقد أكد بيان صادر عن بطريركية اللاتين في القدس أن الهجوم استهدف بشكل مباشر إحدى خيم الإغاثة داخل المجمع، والذي كان يؤوي أكثر من 500 مدني نازح، بينهم أطفال معاقون ومرضى ومسنون، معظمهم لجأوا إلى الكنيسة منذ بداية الحرب.
من جانبه، أعرب الفاتيكان، في بيان وقّعه الكاردينال بيترو بارولين، عن “صدمته العميقة”، ودعا إلى “وقف فوري لإطلاق النار” و”احترام قدسية أماكن العبادة”. وأفادت وكالة رويترز أن إسرائيل فتحت تحقيقًا رسميًا، معتبرةً ما جرى “حادثًا مؤسفًا”، في حين وصفه ممثلو الكنيسة بأنه “استهداف مباشر لا لبس فيه”.
بين الرمز والدم: حين يتحوّل المقدس إلى هدف
الكنيسة ليست مبنًى. إنها الذاكرة. هي الامتداد المكاني للرجاء الإنساني، والرمز الذي يحتضن في داخله الضعفاء حين لا يبقى في الأرض مكان. قصف كنيسة اللاتين في غزة لم يكن ضربة عسكرية عشوائية، بل رسالة صريحة: لا ملجأ لكم، حتى الله لا يحميكم.
في اللاهوت المسيحي، الكنيسة هي “جسد المسيح”، وعندما يُستهدف هذا الجسد، فإن الاعتداء يتجاوز الجدران ليطال الجوهر: إهانة للمقدس، محو لرمزية الحماية، واستباحة لمعنى النجاة. كأن الاحتلال يعلن أن لا أحد فوق قبضته، لا الإنسان، ولا الرموز، ولا أى من المقدسات .
وإذا كانت الحروب تُقاس بأهدافها ووسائلها، فإن ما حدث يؤكد أن إسرائيل لا تخوض فقط حربًا ضد كيان سياسي، بل ضد وجود الإنسان الفلسطيني، ضد ذاكرته، وضد إيمانه.
جذور الاستهداف: حين تكون الرموز على قائمة التصويب
ما حدث في غزة ليس سابقة. فمنذ نشأة المشروع الصهيوني، تأسس الخطاب العسكري والثقافي لإسرائيل على محو الآخر بكل رموزه، وليس فقط السيطرة على الأرض.
من النكبة عام 1948 حتى اليوم، استُهدفت عشرات الكنائس، ومئات المساجد، وتعرضت المقدسات لمحاولات ممنهجة للطمس. كنيسة الطابغة حُرقت، المسجد الأقصى يُقتحم مرارًا، والحرم الإبراهيمي قُسّم قسرًا.
المنطق ذاته يتكرّر: ليس فقط الاحتلال، بل نفي الآخر، وطمس كل ما يشير إلى وجوده وحقه وكرامته. وهنا، تصبح الكنائس جزءًا من المعركة، لا باعتبارها أماكن عبادة فقط، بل لأنها تمثّل حمايةً معنوية يُراد كسرها.
غزة: وجدان محاصر ومعنى مستباح
غزة ليست جغرافيا فقط، بل ذاكرة جمعية لمجتمع بأسره. والكنيسة التي قُصفت لم تكن مجرد مكان ديني، بل منارة للنجاة ومأوى للنازحين.
حين يُستهدف هذا المكان تحديدًا، يصبح الحدث وثيقةً، لا حادثة. وثيقة على أن الفلسطيني، أيًا كانت ديانته، يُعامل كجسم فائض عن الحاجة، كمادة قابلة للإزالة، حتى حين يحتمي بالإيمان.
سؤال اللاهوت السياسي: أين رمزية المقدس حين تقصف الكنيسة؟
الصدمة الأكبر اليوم ليست في حجم الضرر، بل في السؤال الذي يتردد في ضمائر المؤمنين: أين القدسية حين تُقصَف المقدسات ؟
ليس سؤالًا وجوديًا فقط، بل سياسي وأخلاقي. فعندما يُستهدف المقدس، تصبح فكرة المعنى نفسها تحت القصف، ويصبح التهديد ليس لحياة الأفراد فحسب، بل لحقهم في الإيمان والكرامة.
المسيحي الفلسطيني: الغائب عن الرواية
في الإعلام الدولي، نادرًا ما يُذكر المسيحي الفلسطيني، وكأنه غائب عن مشهد الصراع. لكن قصف كنيسة اللاتين، وسقوط الضحايا فيها، يؤكد أن المسيحي في فلسطين ليس زائرًا، بل صاحب قضية، وابن الأرض، وشريك في الوجع والمقاومة.
دماء الضحايا لا تُصنّف كدماء أقلية، بل كدم وطني يسيل دفاعًا عن الإنسان، وعن معنى الوجود.
الصمت الدولي: شريك في الجريمة
العالم الذي صمت عن قصف كنيسة في غزة، هو نفسه الذي تجاهل قصف مستشفى المعمداني قبل أشهر، وتجاهل إحراق كنيسة الطابغة، وتدنيس المسجد الأقصى.
هذا الصمت لم يعد حيادًا، بل صار انحيازًا واضحًا، وشرعنة ضمنية للقتل.
وحين تفشل المنظومة الدولية في حماية كنيسة، فإن ما يُقصف لا يقتصر على الجدران، بل يشمل العدالة، والقانون، وضمير الإنسانية.
من الكنيسة إلى التاريخ: من يكتب ومن يشهد؟
السؤال الحاسم: من سيكتب القصة؟ من سيحفظها من النسيان؟
في مواجهة آلات الدعاية وتزييف السرديات، تبقى الكتابة موقفًا. والتوثيق ليس ترفًا، بل ضرورة أخلاقية ومقاومة ثقافية.
قصف كنيسة في غزة يجب ألا يُقرأ كاستثناء، بل كقاعدة متكررة. الكنيسة التي قُصفت لن تُنسى، لا كضحية، بل كشاهد على سقوط العالم.