في عيده الخامس والأربعين كأسقف: رسالة الأنبا موسى… أن تظل شابًا رغم الزمن

القاهرة- ماجد واصف
مرت خمسة وأربعين عاماً على لحظة فارقة في تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. لحظة لم تكن مجرد سيامة لأسقف جديد، بل كانت بداية فصل جديد في علاقة الكنيسة بالشباب، عندما قرر البابا شنوده الثالث في مايو 1980 أن يدعو لنعمة الأسقفية شابًا منفتح العقل، عميق الروح، هادئ القسمات، ليُدعى الأنبا موسى.
موضوعات متعلقة :
في زمن كانت فيه كلمة “أسقف” مرتبطة تلقائيًا بالحزم والرسمية وربما الهيبة الصامتة، جاء الأنبا موسى ليُقدّم نموذجًا آخر: أسقف يبتسم، يسمع أكثر مما يتكلم، يتحدث لغة الشباب، ويفكّك مخاوفهم بدلًا من إدانتهم، ويصادقهم دون أن يفقد هيبته أو وقاره.
الأسقف الذي فهم جيله… فصار أبًا لأجيال
لم يكن أحد يتوقع أن ينجح هذا الاختيار، فقد كان جريئًا وغير مسبوق: أن يُرسم أسقف عام لخدمة الشباب فقط، دون إيبارشية، في وقت كان فيه المجتمع الكنسي لا يزال يحبو نحو التطوير. لكن البابا شنوده—ببصيرته المعتادة—قرأ اللحظة، وأدرك أن الكنيسة إن لم تفتح ذراعيها للشباب، فستفقد مستقبلها.
فمن هو هذا الشاب الذي حاز تلك الثقة؟ هو الدكتور إميل عزيز ، خرّيج كلية الطب، الخادم النشيط المعروف في كنائس كثيرة علي مستوى القطر المصري ، وهو الراهب القمص أنجيلوس البراموسي . رجل جمع بين العقل الأكاديمي والخبرة الراعوية، وبين التأمل النسكي وروح العمل العام. لم يكن بحاجة إلى أن “يصطنع” لغة الشباب، لأنه واحد منهم.
مشروع حياة… لا وظيفة كنسية
منذ يومه الأول كأسقف عام للشباب، لم يتعامل نيافة الأنبا موسى مع خدمته كمهمة إدارية، بل كمشروع حياة. لم ينتظر من يأتي إليه، بل خرج هو إليهم. زار الجامعات، التقى الخدام، نظّم المؤتمرات، كتب المقالات، في مجلة “الكرازة” ولأول مرة نجد فيها مقالات في نسختها الشبابية، ثم بدأ تكوين مدرسة فكرية متكاملة لخدام الشباب، تقوم على العقلانية، والانفتاح، والإيمان العميق.
وبرؤية استراتيجية متقدمة، أنشأ لجنة الشباب الدائمة في المجمع المقدس، و بفضل مجهوداته وتطويره تطورت أسقفية الشباب لتكون أول أسقفية متخصصة من نوعها، وتُصبح مرجعية فكرية وتنظيمية لكل خدام الشباب في مصر والمهجر.
لماذا نجح؟
لأن الأنبا موسى لم يَخَف من الأسئلة. لم يتردد أمام الشكوك. لم يهرب من قضايا الإيمان المعاصر، أو أزمات الهوية. بل واجهها بالعلم، وبالتجربة، وبالحب.
كان دائمًا يردد: “الشباب لا يحتاج إلى إجابات جاهزة بقدر ما يحتاج إلى من يرافقه في رحلة البحث”. ولهذا ظلّ لعقود طويلة هو “الصديق الكبير” لكل من أُرهقهم الطريق، و”الراعي الأمين” لكل من تعثر في منتصف الرحلة.
مدرسة فكرية بلا ضجيج
لم يكن الأنبا موسى صوتًا صاخبًا. لم يدخل في صراعات، ولم يسع إلى أضواء. لكنه بنى مدرسة فكرية قائمة على الصمت المُثمر. كتبه التي تجاوزت الخمسين لا تخاطب النخبة، بل كل قارئ عادي يبحث عن معنى. لغته بسيطة لكنها عميقة. روحه قبطية لكنها منفتحة. شخصيته نسكية لكنها واقعية.
وكل من عمل معه في لجان الأسقفية أو مؤتمرات الشباب يشهد له بشيء نادر في زماننا: الاحترام الحقيقي للآخر، والقيادة من خلال المثال، لا من خلال الأوامر.
منبر صوت العقل في زمن الغوغاء
في العقد الأخير، ومع تعدد المشكلات والتحديات الشبابية والسوشيال ميديا المتهورة، برز دور الأنبا موسى كصوت للعقل داخل الكنيسة. لم ينجرف مع دعاوى التشدد، ولم يرضخ لابتزاز الجماهيرية. ظل يقول كلمته الهادئة، حتى لو لم تَرُق للبعض، لأن مسؤوليته الأولى كانت ضميره .
وقد شكّل حضوره في جلسات المجمع المقدس صمام أمان حقيقي، وصوتًا يعيد التوازن كلما مال الخطاب العام نحو الانغلاق أو رد الفعل العاطفي.
رجل لم يشخ
اليوم، وهو يحتفل بعيد سيامته الخامس والأربعين، وقد تجاوز الثمانين، لا يزال الأنبا موسى حاضرًا بجسده، وأقوى بروحه. يكتب، يحاضر، يستقبل الشباب، يرد على الأسئلة بنفس الصبر القديم. لا يسعى لمنصب، ولا يتشبث بمجد، لكنه يترك وراءه تراثًا هائلًا من الفكر والرعاية، وعشرات من الكهنة والخدام الذين يحملون مشعل خدمته بكل أمانة.
الختام: شهادة موضوعية
الحديث عن نيافة الأنبا موسى ليس مديحًا بقدر ما هو قراءة في ظاهرة كنسية فريدة. هو رجل اجتمع حوله المختلفون، واحترمه المحافظون والمجددون، لأن الكل رأى فيه ما هو أبعد من “أسقف”: رأوا فيه راعيًا يحمل قلب المسيح.
بقي الأنبا موسى نموذجًا حيًا لراهب حقيقي أصبح أسقفََا ، ولأسقف أحب الشباب فأحبوه، ولفكرٍ قبطي راسخ أثبت أنه يستطيع أن يواكب الزمن دون أن يفقد هويته.
مبروك لنيافتكم، وعيد سيامة مجيد… لأنكم تركتم أثرًا لا يُمحى.